Saturday, October 17, 2009

منال شلبي (ألبيدا) تعرض مشكورة ديواني القادم نبي بلا أتباع قبل طبعه بأيام

خالد الصاوى والنبوة... فى "نبي بلا أتباع"

النبى والنبوة
كيف أجن؟
كى ألمس نبض الكون المختل
هكذا تسأل الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور, وهكذا أعلن الكون مكاناً مختلاً لا يفهمه إلا المختلين... وهكذا أيضاً تنطلق نبوة خالد الصاوى فى ديوانه "نبى بلا أتباع."
فى هذا الديوان يتحول الصاوى إلى نبى... رسالته الحب والجمال والحرية, واَيته الشعر, ومنهجه الجنون, ووحيه وحدته, وزاده الاَمه. والقارىء لأعمال خالد الصاوى السابقة يعرف أن مطالب كالحرية والحب والجمال ليست بجديدة عليه ولا بغريبة على إنتاجه الأدبى, فالطالما كان باحثاً عن الحرية بجميع أشكالها, منقباً عن الحب باختلاف ألوانه, مفتشاً عن الجمال فى كل الأشياء... ما كبر ومنها وما صغر. ومن هذا الديوان تبدأ الرسالة ويبايع الصاوى نفسه نبياً. وتظهر- كالعادة- روح التمرد المجنون طاغية على الديوان, فالشاعر أدرك- كصلاح عبد الصبور- عشوائية واختلال الكون ويظهر ذلك واضحاً فى "قصائد فى فنجان" التى تتمحور حول خداع الحياة وتهاويها... نحن نخدع بعضنا البعض, نخدع مبادئنا, مشاعرنا تخدعنا ونخدعها, حتى أعضائنا تخدعنا. لذلك أتخذ الشاعر من الجنون منهجاً وأسلوباً لمجابهة تلك الحياة المجنونة, فيشذ عن ناموسها ليستقيم أمرها وينبذ مألوفها ليألف غريبها ويضحى بحياته ليحيا ضحاياها.
والمعروف أن لأى نبى أتباع يؤيدونه وينصرونه على من يرفضه, ولكن الشاعر اختار أن يكون وحيداً, وكأن تلك الوحدة هى مصدر قوته. فالصراع هنا ليس صراع بشرى قائم على اختلاف فى القيم أو المبادىء أو العقائد, وأنما هو صراع مع الحياة ككل! لذلك نجد أن الشاعر أحياناً يتجاوز وجوده المادى ليصبح النبى داخل كل إنسان... الضمير الحى وروح الإله داخل كل منا:
أرقد فيكم.. أنهض فيكم..
أعطيكم تجربة الإِحياءِ.. أريكم روح الأشياءِ.. الخلق.. الخالق..
كيف تكون الزهرة فى أيديكم وتراها عين العقلِ..
تُشَمُّ بأنف القلبِ.. تُلَوَّن ثانية فيكم
تتشكل فى واديكم طفلاً.. طيراً.. وجه امرأةٍ..
أعطيكم لون أمانيكم..
ومما يؤكد ذلك هو تحرر النبؤة من حدود الزمان والمكان وقيود الماديات وتنقلها فى فضاءات الماضى والحاضر والمستقبل. فتارة يعود الشاعر إلى الماضى ويستحضر مواقف من التاريخ الفرعونى والجاهلى والإسلامى والمسيحى والرومانى. وتارة يجوب بنا فى أحداث الحاضر أو غيابات المستقبل ليتنبأ بمصير مظلم. واللافت للنظر هنا هو طريقة استعراض الصاوى لمثل تلك المشاهد الزمانية. فهذه المواقف حقيقية (الماضى والحاضر منها بالطبع) وحدثت بالفعل ولكنه يراها من وجهة نظره... وفى كل مرة, يكون هو شخصاً من أشخاص الموقف, يرصد الحقائق بعينيه ويربطها بخيط شفاف- لكن قوى- بواقعه. فهو الشاعر الجاهلى والقس المصرى والإمبراطور الرومانى فى الماضى, وهو المناضل الفلسطينى فى الحاضر, وهو الشاعر المنبوذ فى المستقبل. اجتمعت كل هذه الشخصيات لترسم الملامح اللازمكانية للنبؤة.

حروف وألوان ودم... وأشياء أخرى
يستخدم الصاوى الكثير من العناصر الخارجية (كائنات حية وأشياء جامدة ذات دلالات مختلفة) للتعبير عن مشاعره, واستطاع أن يضفى عليها الحياة ويبث فيها الروح فأصبحت شخصيات لها دور درامى فى مسرح خيال الشاعر. وفى أحيان كثيرة تتماثل تلك العناصر مع شخصية الشاعر فتتخلى عن دلالاتها وتصبح هى الشاعر نفسه مثل الفراء فى قصيدة "مذكرات فراء" والأسد فى قصيدة "الحصار."
"حروف متحركة" هى واحدة من أجمل قصائد الديوان والتى لعبت فيها الحروف دور البطولة. وهنا يظهر إبداع الصاوى وقدرته على توظيف أبسط الأشياء فى قصائده وتحويلها إلى عناصر مؤثرة نابضة بالحياة. ففى تلك القصيدة تحولت الحروف من مجرد حروف مبنى إلى حروف معنى ... فأصبح كل حرف يعبر عن كينونة مستقلة بذاتها وحالة شعورية مختلفة بتتمثل فى صوت هذا الحرف وتأثيره على الشاعر, تماماً مثل الألوان فى قصيدة "دائرة الألوان" حيث يعبر كل لون عن حالة نفسية بتداعياتها الشعورية.
وقد يلاحظ القارىء كثرة استخدام الصاوى للدم كعنصر أساسي وبطل رئيسى فى هذا الديوان حيث تتعدد صوره وتختلف دلالاته, فالدم بلونه الأحمر هو الموت والحياة والحرب والانتقام والخلاص والعذرية والحب. كما أنه أفرد له قصيدة اسماها "قانون الدم"... فقانون الدم هو قانون الحياة... الدنيا من الميلاد إلى الموت, وما بينهما من حب وصراع ونصر وهزيمة وأمل ويأس.
ومن الجدير بالذكر أن القصائد المكتوبة فى قسم "حفريات" قد ألفها الشاعر وهو دون العشرين عاماً, مما يدل على موهبة مبكرة وخيال فذ.

النبى يحب
أجمل ما فى نبوة الصاوى أن الحب جزء لا يتجزأ منها. فالشاعر يربط الحب بكل شىْ... بأكثر لحظاته سعادة, وأكثرها حزناً.. بالسلم والحرب.. بالنصر والهزيمة.. بالحياة ككل! وكثيراً ما يختلط وصفه للحياة بوصفه للمرأة... فالمرأة هى تلك الغاوية الجميلة المتقلبة... تماماً كالحياة:
فرجعت لأكتبَ قصتَها البنتِ السيدةِ الحالمةِ النعسانة
الابنةِ والأختِ.. الزهرةِ والقاتلةِ الفتَّانة
النطفةِ والقيثارةِ والثرثارةِ والنشوى النشوانة
القبلةِ والتفاحةِ واللدغةِ والطعنةِ والزنزانة
وتتكرر تلك الصورة فى الديوان, ويصبح الشاعر هو الرجل الفانى الذى يريد أن يغرز نطفته فى الحياة قبل أن يموت.
أما عن الصور الجنسية المستخدمة فهى ذات طابع أسطورى بدائى يحمل القارىء على اكتشاف سحر الغريزة الأولى وغموض بدء الخليقة, وتتشابك خطوط تلك الصور راسمة لوحة أبدية لاَدم وحواء.

التطهر من النبوة!
يأتى الجزء الأخير للديوان- "تطهر"- بشكل مفاجىء وصادم للقارىء بما يحمله من مشاعر يأس طاغية. فبعد أن شارك القارىء الشاعر فى نبوته منذ بدايتها وما مر به من تمرد هادف وغضب نبيل ولحظات من الشك واليقين, يفاجأ بإعصار من اليأس المدمر المحموم, بجانب السخرية والتهكم والخلط المتعمد للمفاهيم, ويعلن الصاوى فى "نشيد الختام":
كنت نبياً.. دون رسالة
دون وصايـا..
كنت نبياً.. ثم فقدتُ كتــاب الدينْ!
وكأن تلك النبوة قد أجهضت وهى فى رحم الفكرة وحكم عليها بالبطلان قبل بدايتها. كما أن اختيار اسم "تطهر" لاَخر مجموعة من قصائد الديوان تجعل النبؤة وكأنها أكذوبة وخداع ووهم يريد الشاعر أن يتطهر منه!.... تلك النهاية تترك القارىء مثقلاً بالهموم واليأس, وتقضى على ما حملته القصائد الأخرى من إقدام وعزم.

دراما وتنوع
من أساليب الصاوى المميزة هو خلطه للخيالى بالواقعى. وهذا الخلط فى "نبى بلا أتباع" أضاف حيوية على النصوص بسبب الجمع بين العناصر الزمانية والمكانية والشخوصية المتابينة فى موضع واحد, فأضاف على القصائد عنصرى المفاجأة والدهشة. وضاعف من هذا الأثر الدرامى استخدام الجمل الحوارية على لسان الشاعر أو الشخصيات مما يعطى المواقف طابعاً مسرحياً جذاباً. وتلعب ذات الشاعر دوراً مهماً فى الديوان, فأوقاتاً يتحدث الشاعر عن نفسه بضمير المتكلم- وأن أخفى هويتها- وأوقاتاً أخرى يتحادث معها بضمير المخاطب- خاصة حين يحثها على التمرد ونفض الذل وعدم الخضوع- ويدخل فى حوار ملتهب معها.
يلاحظ القارىء أيضاً كثرة الجمل الإعتراضية. والجمل الإعتراضية جاءت لتعبر عن التداعى الفكرى للشاعر مما أضفى على القصائد نوعاً من المصارحة والتلقائية والمصداقية, ولكن أحياناً أخرى كان الهدف منها الإمعان فى الوصف الذى طغى على جمال الجملة الشعرية.
اختيار الصاوى للغة كان موفقاً للغاية, حيث إنه استخدم لغة لدنة تتشكل حسب مضمون القصيدة وهويتها. فكما سلف الذكر يحتوى الديوان على قصائد عديدة تجوب فضاءات مواقف من الماضى والمستقبل والحاضر وتعرض ألواناً مختلفة من المشاعر, فمثلاً نجد بعض القصائد تحمل طابع الشعر الجاهلى, وأخرى تحمل الطابع القراَنى وأخرى الطابع الإنجيلى وهكذا. هذا بجانب الإحالة إلى سور من القراّن الكريم وأبيات من الشعر العربى القديم- لأبى فراس الحمدانى وامرىء القيس على سبيل المثال- كما تنوعت أشكال القصائد أيضاً بين عمودى وتفعيلى ونثرى لنفس السبب السابق.

ختام
وسواء نجحت النبوة أم بأت بالفشل, وسواء لاقى النبى حتفه شهيداً أم رجيماً... يظل ديوان "نبى بلا أتباع" خبرة شعورية وشعرية تستحق التقدير والاهتمام, وتضع خالد الصاوى فى مصاف الشعراء المبدعين.

منال شلبي
12\10\2009

Monday, October 12, 2009

أريد أن تكون حياتي
مهرجاناً مسرحياً لا ينتهي
وأن تكون مذكراتي
فيلماً سينمائياً مستمرَّا
وكلماتي.. ملحمةً لا حدود لها
وتأملاتي.. كرنفالاً للحياة

أريد أن أكون في كلِّ لحظة مندمجاً
أخرج من شخص لأصبح شخصاً آخر
تتلبسني العفاريت والحالات النفسية
أستحضر في بدني العصور والأماكن
أريد أن يردد الجميع سخريتي المريرة
وأن يدمع الجميعُ أيضاً
لدموعي الدافئة

أريد أن أصبح شيئاً ما.. دُخاناً.. أو رمالا
موجاً ربما.. أو شجراً نيليَّاً.. أو غيماً كثيفا
أريد أن أصبح هوجة إعصار حاسمة
زلزالاً مدمراً.. أو شتاءً مخيفا
أريد أن أصبح نسمةً فى المساء
وطيراً يَمُرُّ أمام القمر

أريد أن أًصبح خالداً.. لا أنتهي
فوق المكان وفوق كل زمان
أريد أن أمر فى الكون مسرعا
كحزمة من أشعةِ ليزر

نعم أنا أريد أن أناطح الفناء
أريد أن أبتلع الكون كله مرة واحدة
وأوجد في وجودٍ جديدٍ.. ممتليء

Monday, October 05, 2009

وعود راحلة

أعرف جيداً هذه الأشياءَ كلَّها..
أعرف كيف يهرب الإنسان من مشاعره
كيف يودع بلداً فاتراً وعلاقةً عابرة
كيف يهرب من قبلةٍ أخيرة فى المطارِ
وكيف يقول وعوداً
يشكُّ فيها كثيرا

جميلةٌ أنتِ.. وأيضاً..كاذبة
وأنا مثلكِ.. جذَّابٌ وكذَّابٌ كبير
والتقى الكِذْبانِ لكن.. فى لحظةٍ صادقة
كلانا كان يحتاج الآخر.. صدقيني
الكذب وحده يا صغيرتي
لم نكن نحتاجُ

في المقعد المجاور في الطائرة
رأيتكِ تذبحينَ العلاقة للأبد
أنتِ التي صرخت في فصل البداية
تريدين احتضاني في فضاء البادية
وسط البدائيين الطامعين فيكِ
أنتِ بنفسك من زجرتني فى الطائرة
"الناس حولنا"
فهل أنتِ نفسكِ؟؟
أم لا أنت أنتِ
ولا الكلام كلامُ؟!

عندما تركتِني ورحلتِ
سمعتُ اسمكِ في مُكَبِّر المطار
قفزتُ وقلبي متسائلَيْنِ
ورحت أمسح الصالاتِ بحثاً
كأبٍ ريفيٍّ في مولد السيدة
ضاع منه وليدُهُ المريض

صوتكِ في الهاتفِ كانَ لامعاً نقيَّا
انتصرَ الجبنُ، وآثرتِ السَّلامة
تَخْشَيْنَ حباً بعيداً ورجلاً أجنبيَّا
والحواجز التي بايعتني عليها
أوقَفَت الحبَّ للتفتيش الشخصيّ
وانتهى الكلامُ في مكالمةٍ هزيلة

أعرف أنك قلتِ لي: "لا تغضبْ"
لكنني غضبت يا فتاتي اللعوب
حين قالت أختك إنكِ في الشام
كنت أقبعُ في رحاب الهاتف
مثل كلب منْزِليٍّ يشتاق لِسَيِّدِهْ
وقبلها.. في البار حين جاءك هاتف
و صرتِ تتكلمين بتكتمٍ مفضوح
نعم صديقتي.. أعرف هذه الأشياء
فعلتها كثيراً قبل أن تُفْعَلَ بي!
وأنا الآن حزينٌ لأنني أحببت
ولأنني أعرف أكثر مما تتخيلين

الذي أحببته فيكِ.. لن يراه رجلٌ آخرْ
أحببت فيك الذي لم تعرفيه بنفسك
كنت أستطيع أن أعطيكِ المزيج النادر
وأن أكون من تبحثين عنه منذ خلقتِ
(أباكِ الذي هجر البيت قبل مولدِكْ!)
وأن أكون من يقاتل فيكِ البدو والحضرْ
وأن أركب في سبيلك البحر والجبال والخطرْ
لكنني يا ملاكي المرهق الحائرْ
لا أستطيع أن أكون الرجل الآخرْ
لا أستطيع إلا ان أكون.. آخر الرجال

نستطيع الآن أن نكون أصدقاء كما أردت
لا أستطيع منعك من الرجال والمال والسفر
ولا تستطيعين أنت بالتأكيد مطلقاً
أن تمنعي عني الدموع

المرأة التى جاءت إليَّ لأنساكِ فيها
رحلت غاضبة!
لم يعد لي الآن إلا دميةٌ صغيرةٌ جميلةٌ دافئة
تنام فى أحضاني
واسمها رولا

Thursday, October 01, 2009

ديوان أجراس من عيون صديقتنا الناقدة الشابة منال شلبي-ألبيدا

عندما يعلو صليل الأجراس على الكلمات:
قراءة نقدية ل(أجراس) خالد الصاوى


لكل منا أجراس فى حياته... أحداث عايشناها وشخصيات قابلناها وكلمات سمعناها استطاعت دون عن غيرها أن تقرع جرساً فى وجداننا لتنبهنا لحقيقة ما أو لتوقظ فينا إحساساً جديداً. فى ديوان (أجراس) لخالد الصاوى تمثل كل قصيدة جرساً فى حياته, حالة شعورية أو نفسية قد مر بها... لحظات من الحب والكره, الأمل واليأس, الفرحة والحزن, الحلم والغضب. لذلك يشعر القارىء بأن الديوان هو أقرب للسيرة الذاتية النفسية للشاعر والتى يسجل فيها مشاعره الأكثر حميمية وتقلباتها على مدار ما يقرب من العشرين عاماً. والإقدام على مثل هذا العمل هو شجاعة كبيرة من الشاعر, حيث استطاع أن ينفض عن نفسه جميع الأغطية والعوازل المجتمعية وغيرها ليعرض مكنونات نفسه عارية أمام الناس جميعاً, ويعترف الصاوى بذلك من البداية حيث يقول فى أول قصائد الديوان:
المشخصاتى الواقف الاَن على الخشبة
يبحث فى أنحائه عن ملامح الشخصية المفضوحة
وحينما يعيش فى حياته الجديدة المزيفة
يفقد نفسه الأولى..
ويبات فى الفراغ
وكما يقول الناقد والروائى الكويتى طالب الرفاعى عن هذا النوع من الكتابات أنها " تقوم أساساً على بوح جرىء, يعترف الكاتب من خلاله بأدق تفاصيل خلجات نفسه ومشاعره وعواطفه, وهو بالتالى, أى الكاتب, يقدم على تعرٍ شخصى محفوف بالمهالك." (تجارب فى الإبداع العربى, الصادر عن وزارة الإعلام الكويتية ومجلة العربى يوليو 2009, ص216) فمن الصعب على أى إنسان أن يكشف الغطاء عن أفكاره ومشاعره بهذا الشكل تاركاً نفسه وحيداً, دون أسرار يسكن إليها وخبايا تؤنس وحدته.

وبالرغم من تعدد الحالات الشعورية والنفسية التى تعبر عنها قصائد الديوان, يسيطر عليها جميعاً نوعاً من الخوف المزمن من المرور السريع للزمن. لا يخاف الشاعر من تقدمه فى العمر, على العكس, فهو يرحب به بكل شجاعة, وأنما خوفه الأكبر هو أن ما فاته من عمره قد ضاع هدراً دون هدف أو معنى:
عشرين عاماً حائر أنا
مبددة طاقتى.. كاشتعال بئر فى الخليج
مبعثرة أحلامى كالكلمات المتقاطعة
مشتت الذهن كمخبول بلا بيت
ومن هنا يتحول هذا الخوف من التبدد إلى نوع من التمرد الدائم والصراع مع الحياة من أجل أن يحقق الشاعر ذاته ويخلدها. ولا أعنى هنا الخلود بمعناه الذاتى النرجسى, وأنما الخلود الذى يشوبه الإنتحارية والتبشيرية. فالشاعر على أتم استعداد أن يخسر حياته بشرط أن يكون لها معنى, أن تضيف شيئاً للاَخرين, أن تغير الكون. ولذلك يتلون تمرده على الحياة بالطابع التبشيرى الجرىء الذى يتخذ من الموت صديقاً ومن الإرادة سلاحاً, فيقول الصاوى:
أيها الموت تقدم... أنا لا أخشى ظلامك

وهذا الصراع يقودنا بشكل تلقائى إلى علاقة الشاعر مع الحياة نفسها, والتى يبدو وكأنه فى صراع أبدى معها, وإن تخللت هذه المعركة لحظات قصيرة من السلام المخادع. فالشاعر, كأى طفل, اَمن بجمال الحياة ومثاليتها فى صغره, ولكن مع تقدمه فى العمر بدأت فى خلع أقنعتها وتبدى له وجهها القبيح اللامبالى, ومن هنا تبدأ معركة الشاعر مع الحياة. يكثر تصويرالصاوى لهذا الصراع فى ديوانه, فتارة يشن عليها حرباً كلامية فيصفها بأقذع الصفات ويخلع عليها أشنع التشبيهات, وتارة أخرى يتخذ شكلاً مادياً ملموساً فى صورة معارك وحروب وأسلحة وجنود, ووسط هذا الضجيج القتالى الملحمى, يظهر لنا أمل الشاعر الراسخ فى تبديل تلك الحياة "الاَنية" القاسية بالحياة الاَخرى "اليوتوبية" والتى رسم ملامحها واضحة فى خياله, تلك الحياة التى يعيش فى رحابها ويستنشق عبيرها كلما خلا إلى نفسه, وأصبحت هى الحلم الذى يطارده ليفرض نفسه على الواقع المهترىء:
النهوض الذى أحلم الاَن به..
كون يزيح كوناً طائشاً بلا هدى
فتصبح غايته الأسمى ورحلته الأبدية هى تحويل هذا الكون الخيالى إلى واقع حتى وإن خسر فى الطريق حياته. ولعل أكثر المشاعر التى يمر بها الشاعر إيلاماً ليس إحساسه بتهاوى العالم الاَنى أو الواقعى من حوله, وأنما عندما يستشعر زيف الحياة اليوتوبية بداخله وعقم محاولاته فى تحقيقها! هنا فقط يتملكه اليأس القاتل ويتحول وجوده الإنسانى إلى لعنة تطارده.

وإذ كانت علاقة الشاعر بالحياة هى أحد المحاور الرئيسية للديوان, فإن علاقته بالمرأة تفرض نفسها على الديوان أيضاً. ويستشعر القارىء أن الحياة والمرأة لدى الشاعر هما وجهان لعملة واحدة. فالأصل فى العلاقة هو الصراع, ولكن كما تختلف الأيام فى الحياة, فمنها الباعث على السعادة ومنها الباعث على اليأس والحزن, تختلف أوجه المرأة أيضاً. فهناك الأنوثة والحنان والجمال, وهناك الغش والخداع والتقلب, ولكن تظل المرأة واحدة:
ليست لدى مع النساء ذاكرة
التى أحببتها من ألف عام تشبه الحالية
نفس الأنوثة..
نفس الإجرام..
نفس السطحية!
ولا يعنى هذا مطلقاً أن الشاعر كاره للنساء أو عدو لهن, على العكس تماماً, فهو ينظر للمرأة كرمز للجمال المطلق والأنوثة الكاملة والحنان الأبدى, كما أن قصائد الحب فى الديوان ترسم أسمى أنواع العشق وتلونها بمشاعر صادقة. ولكن المشكلة هى أن الشاعر يتعامل مع المرأة بنفس المنطق الذى يتعامل به مع الحياة, فهو يحبها لدرجة أنه يكره أن يرى بها أى شائبة أو عيب, لذلك هو دائماً فى إنتظار تلك المرأة المثالية التى طالما رسمها فى خياله والتى تختلف عن جميع النساء الاَنيات, وسيظل يبحث عنها للأبد إلى أن يجدها ويحولها إلى واقع, وتظهر هذه الصورة واضحة فى قصيدة (مؤكد هناك من).

ومن العلاقات التى صورها الديوان بصورة رائعة أيضاً هى علاقة الشاعر بموهبته عامة, وشعره خاصة. فلدى الشاعر, ككل الكتاب والفنانين, ذلك الشعور الدائم بالنقص وعدم امتلاك الموهبة الكافية, وأنه لا يجيد الأشياء الوحيدة التى يجيدها:
من الواضح أن المجد لم يتعرف على
من الجلى أننى أسير بنصف موهبة
وأن ما تحتويه القواميس والمعاجم من كلمات لا يكفى للتعبير عما يختلج فى نفسه, وكما يقول جلال الدين الرومى فالشعراء دائماً ما يحاولون الوصول إلى الناحية الأخرى من الكلام. كما أن علاقة الصاوى بشعره هى دائماً مضطربة. فهى مثل علاقة الرجل بعشيقته, تلك العلاقة التى يملؤها الإثارة والعشق والمغامرة, ولكن فى نفس الوقت تنطوى على الشك والكره والخوف. فهو فى حاجة دائمة إلى تلك المعشوقة ولكنه أحياناً يكره إحتياجه إليها ويخاف من هجرها إياه. تلك العلاقة المعقدة تتضح أكثر عندما يعلن الشاعر أن الشعر ليس غايته:
الشعر ليس غايتى..
أنت أيها البعيد.. بغيتى الوحيدة
فأصبح الشعر أداة أو وسيلة أساسية للوصول إلى غاية الشاعر. قد تكون تلك الغاية هى الحياة اليوتوبية أو الحب المثالى أو الخلود, ولكن يظل الشعر هو الخيط المؤدى لتلك الغاية, والمؤنس الوحيد فى تلك الرحلة.
وقبل التوجه إلى عرض السمات والخصائص الأسلوبية للديوان, يجب التأكيد على أن ما تم استنتاجه من أفكار سابقة لا يجب النظر إليها بشكل مطلق لإنها قد تكون لحظية أو لا. ويرجع ذلك إلى طبيعة النصوص الشعرية فى الديوان, فهى, كما سبق الذكر, تعبر عن مراحل وحالات شعورية مر بها الكاتب على مدار عشرين عاماً, فمن الممكن أن تكون أصوات بعض هذه الأجراس قد خفت فى نفس الشاعر, بينما ظل صدى البعض الاًخر مسموعاً حتى الاَن.

الخيال دون واقع سراب, والواقع دون خيال كابوس. استطاع الديوان أن يحمل القارىء فى رحلة تتلاطم فيها أمواج الواقع والخيال معاً. ففى بعض الأحيان يأخذ الصاوى القارىء فى رحلة بديعة فى عوالم أسطورية حيث الملوك والجوارى والعطور الماجوسية, ويخدره بالصور والتشبيهات الحالمة, وفى أحيان أخرى يغمسه فى تراب الواقع ويذكره بإختناق المحور والدائرى وكارثة تسونامى ومشكلة عمال النسيج فى المحلة ونهب اَبار البترول فى الخليج. وهذه الإحالات على المشاكل المعاصرة فى عالمنا توضح أن هموم الشاعر ليست شخصية فقط وأنما وطنية وإقليمية ودولية أيضاً. وبيعداً عن أمواج الواقع والخيال, يظهر فى أكثر من موضع استخدام الشاعر للأساليب والإيحاءات الدينية عامة والقراَنية خاصة. ويرجع ذلك كما أشرت سابقاً إلى طبيعة روح الكاتب الثورية التبشيرية. ففى تمرده على الحياة الاَنية المتهالكة الفاسدة, يرى نفسه كنبى يحمل رسالة سامية ويبشر بكون أفضل.

أما عن الصور والتشبيهات المستخدمة فى القصائد فجميعها جديدة وغريبة تعكس روح الشاعر المتمردة الرافضة لكل ما هو مألوف. فنجده مثلاً يصف الحياة "بتلك الولود الحبلى بالثورة" وعذرية المحبوبة ب "المملة القاحلة" وسنواته الماضية بأنها كانت "سندبادية مزركشة." كما يظهر التناقض فى نوعية الصور المستخدمة فبعضها فج قاس كتشبيهه لقلبه ب "الكلب" وللحياة ب "العاهرة الرخيصة," والبعض الاًخر رقيق وحالم كوصفه لمحبوبته ب "الوردة الزرقاء السماوية." وعلى الرغم مما يسبه هذا التناقض من ارتباك وتشتيت, فأنه يمتد ويقسم الصور والتشبيهات ما بين الحسى والخيالى بهدف التعبير عن العالمين اللذين يعيش بينهما الشاعر كما سلف الذكر. وتحتوى قصائد الديوان على الكثير من الموسيقى- مع أنها ليست من السمات المميزة لقصيدة النثر- التى تنبعث ليس فقط من السجع فى بعض السطور الشعرية وأنما هى موسيقى داخلية خفية تظهر نتيجة لانسياب المشاعر الصادقة.

يعتبر ظهور الشعر الحر تمرداً على الشعر القديم الموزون, وقد جاء ديوان (أجراس) محتوياً على قصائد شعر حرة (قصائد النثر فى الأغلب والقليل جداً من شعر التفعيلة) مما يظهر تمرد الشاعر وثوريته. وعلى الرغم من ذلك نجد أن قصيدة (عشر جوارِ وأميرهم) جاءت بالشكل الموزون التقليدى, وهى أيضاً مختلفة من ناحية اللغة والصور والرمزية عن باقى قصائد الديوان, مما جعلها تشكل تمرداً على التمرد!

من يطالع الديوان لأول مرة يعتقد أن ترتيب القصائد فى الديوان عشوائى وينقصه النظام. ولكن هذه العشوائية- فى رأيى- تعكس ناحية جمالية. فقد اتخذ الديوان من الفوضى نظاماً, تماماً كالحياة التى وصفها الصاوى ب "سيمفونية الفوضى المنسقة." فليس هناك منهجاً محدداً تسير عليه الحياة, فليس بالضرورة أن يأتى بعد الخوف أمان أو بعد الحزن فرح أو بعد المقاومة استسلام. لذلك أراد الشاعر أن يجعل القارىء يمر بالتجربة الحياتية كما هى دون تجميل أو تشذيب.

خلاصة القول هى أن خالد الصاوى تمكن فى (أجراس) أن يمزج بين موهبته وواقعه وتجربته الذاتية, حيث أن العمل الفنى "تتعاظم قيمته حين يرتبط بالتجربة الخاصة بالمبدع, تلك التى تتيح له القدرة المضاعفة فى تميز إبداعه." (د. محمود إسماعيل, مجلة أدب ونقد الصادرة عن حزب التجمع, العدد 228, أغسطس 2009, ص18), أى أنه لم يقدم إبداعاً فقط ولكن إبداعاً متميزاً. فبعد أن ينتهى القارىء من الديوان لن تعلق فى ذهنه الكلمات والصور وما إلى ذلك وأنما ستلتصق بوجدانه أحاسيس الشاعر لفترة, تلك الأحاسيس الصادقة القوية التى طغت على الكلمات وحولت القصائد إلى مشاعر منطوقة.

منال شلبى
22\9\2009